ما زلت أذكر كيف إبتعدت عنها وتخلصت من ذراعها التي أمسكت بها ذراعي -دون وعي مني- لأنظر في وجهها وأتمعن في جدية ما تخبرني به.
جذبتني وقتها نحو الممر الكبير في مكان عملنا وبدأت تمشي بجانبي وتقول بصوت منخفض وفرح كمن يخشى على سره من أن يطيره الحسد: سأتغيب عن الدوام في الأيام القادمة.. لقد تمت خطبتي وقريبا سنتزوج.
كنت لأفرح للخبر دون تفكير لو كانت إحدى زميلاتنا الشابات هي من تحدثني، ولكن عندما تحدثت نادية بالأمر كان من الطبيعي أن ترتسم نظرات الإستفهام والتفكير على وجهي دون ابتسامة، فنادية زميلتنا الخمسينية والتي غادر جسدها المترهل ما قد يغري رجلا ما بطلب يدها، وغادر وجهها رونق الشباب بفعل السنوات وبفعل الإهمال أيضا، كنا جميعا نتوقع أنها نسيت الأمر ومضت في حياتها بعد أن فقدت زوجها وعادت إلى بيت أهلها لتعتني بوالديها الكبيرين وتؤنس وحدتهما.
قلت بإبتسامة مصطنعة أحاول بها أن أخفي ضجيجا بدأ يجيش في روحي:
= من هو؟
ـ صديقتي هي زوجة أخيه..
= هل هو أعزب؟
ـ هو مطلق.. زوجته هي من تخلت عنه ورفضت العودة إليه ويقيم حاليا في بيت أخيه.
= وأولاده؟
ـ مع زوجته خارج البلاد.
= يعني ترك مسؤولياته وتخلى عن عائلته!
ـ بل هي من تركته ورفضت أن تتصالح معه.
= من أخبرك بالخبر؟
ـ زوجة أخيه.
= وهل سألت غيرها فربما هي مشاكل بين السلفتين؟!
ـ لا لا صديقتي أكدت لي هذا.. وأنا أعرف عائلته منذ زمن هو شخص طيب.. ولكنه لم يتفق مع زوجته طوال خمسة عشر عاما.
ساد صمت مطبق بيننا فهِمَتْ هي من خلاله أنني توجست من الأمر وأن هناك أمورا كان عليها أن تفكر فيها قبل أن تدخل عشا جديداً، وأن تفكر جيدا، وتسأل عن سبب تخلي الزوجة عن زوجها، وعن تخليه عن الأولاد وهم في عمر المراهقة وبداية الشباب.. وهل ينفق عليهم؟.. وهل ستتخلى هي بدورها عن والديها وهم في شدة الحاجة إليها؟.
وفهمتُ أنا أنها لا تريد أن تنبش وراء الرجل، وأنها تريد الزواج منه مهما بدت الخسائر كبيرة، وقد كانت تخشى من أن تكون ممرضة لأبويها نيابة عن جميع أبنائهما.. وأنه أي خطيبها لن يكون أسوء من زوجها السابق الذي أذاقها مر العذاب، فهو على الأقل سيعفيها من التسوق وحمل ما تشتريه، وأنها ماضية في مشروعها حتى لو إضطرت للإنفاق على حياتهما معا وحدها.. ولو أعاد زوجته السابقة إلى عصمته أيضاً.
غابت صديقتي في إجازتها السعيدة.. وكدت أنسى حكايتها مرات عديدة لولا أن مكانها خلف طاولتها كان يذكرني بها فأدعو لها بصمت ثم أمضي.
كانت أخبار كثيرة تتوارد عنها في غيابها.. الكثيرون إنتقدوا زواجها والبعض أشفقوا عليها..
علمنا في تلك الفترة أنه أرسل يطلب عودة أبنائه للعيش معهما.. وأنها تدفع راتبها إيجارًا للمنزل ومصاريف لا يتمكن هو من توفيرها لأنه يرسل لأولاده مالا.. وبقيت أسباب تخلي الزوجة الأولى عن زوجها غيباً نجهله جميعا ولا تريد صاحبته أن تكشف غطاءه.
كنت أصمت في إنتظار رؤيتها بعد عودتها.. وكنت أدرك أن مظهرها هو ما سيقدم للجميع الإجابات كاملة ولو بقيت تكابر وتصبر وتصمت وتوحي لنا بأن الأمور بخير.
كنت طوال الوقت أتخيلها تدخل بمعطف جديد أنيق وبحذاء ذي كعب عال وأن وضاءة البشر في وجهها قد تتوهج إلى ما بعد شالة رأسها التي تخيلتها أيضا من نوع غال وقماش رفيع الخياطة، وكنت أتخيل كذلك أن بشرتها ستتورد وأن إبتسامة عريضة ستخفي عنا تجاعيد وجهها القليلة التي تحيط بفمها الصغير، وكنت أحب أن أراها بغير تلك النظرة الكسيرة والتي تعني لنا دائما بأنها مثقلة بالظلم.
بدا هذا الصباح مختلفا وأنا أنظر إلى ذلك الحشد في غرفة عروسنا.. إقتربت على أمل أن أرى صورة قريبة لخيالاتي ولما رأيته في أحلام يقظتي، فوجدتها كما هي.. ترتدي معطفها القديم.. وشالتها القديمة.. وحذاءها الأسود المنخفض.. ورأيت تجاعيدها التي تعاطفت مع نظرتها الكسيرة ما زالت تخبرنا كم بقيت مثقلة بالهموم.
الكاتب: عبير النحاس.
المصدر: موقع رسالة المرأة.